لوحة لـ«تشارلز جابريل لمونير»، تمثل قراءة لمأساة ڤولتير: «يتيم الصين» (1755م)، في صالون مدام جيوفرين. |
العداء بين المثقف والسياسي قديم أزلي، لا تخطئه في مرحلة من
مراحل التاريخ الثوري أو حقب التنوير، فنحن نؤمن أن القلم أشد بأسًا من
فوهة البندقية، أما السياسي فدستوره يتلخص في قول جوبلز: كلما سمعت كلمة
مثقف تحسست مسدسي.
ذلك لأننا نناضل بسن القلم الذي نشعر بغربته أحيانًا في عالم غير متزن
ونشعر ببعض غربته فينا؛ لذا سرعان ما ينهزم لكنه أيضًا سرعان ما يقوم ولا
تنضب طاقته.
أما ندّنا فمبادئه أوهن من بيت العنكبوت، وانتصاره زيف ووهم؛ لأن صرير
القلم أشد صممًا من صوت المدافع، ووقع كلماته أعنف من سقوط القنابل على
الأرض المتهرئة.
ويظل الصراع بين المثقف والسياسي بقاء الإنسان على البسيطة، والاتفاق
بينهما مستحيل، فلا يتفقان إلا عرفت أن فسادًا ما يستتر بين كفيهما
المتصافحين. وما ذلك إلا لاختلاف الأهداف وتباين الرؤى وتضاد التوجهات.
والسياسي لا يُشترط أن يكون رجلاً ينشغل بالرأي العام، أو كاتب فذ، فإن
السياسي إما أن يتمثل في نفاق بيّن لرجل مداهن للسلطة يدلس على العامة
سياستها ويزيّن في أعينهم فسادها ويعطي التبرير والمسوغات لتلك السياسات
الضارة، وإما أن يكون حزبًا مواليًا للسلطة على حساب مبادئه وأفكاره
لاستمرار وجوده، وإما أن يكون السلطة ذاتها، وما السابق عليها إلا أذرع
لها.
فالسياسي الذي يصل للسلطة ولم تُنجبه الأرض ولم يصل به الشعب إلى القصر
إن تملّك مقاليد الأمور ودفة الحكم في بلد ولّى أشرعته تجاه أطماعه
وطموحاته الشخصية، راسمًا عليها جمجمة وعظمتين متقاطعتين يخيف بهما الشعب
إذا انتقد أو احتج.
وليس للشعب إن تبيّن فساد السياسي وكذبه إن خرج على السلطة أقل من الاعتقال أو الرمي بالرصاص في الميادين.
وهنا يعلن المثقف الحر عداءه سافرًا بلا خجل أو حياء، ويتصدى لفساده
الملون الزاهي، ويستخرج السم من قطرات عسله، فيطلق عليه السياسي أفاعيه
فيتهمونه بالخيانة وبيع الوطن. حتى بعض الشعب المخدوع الذي ثار لأجله
المثقف يكون أقرب السهام إليه وأسبقها إلى صدره.
والسياسي الذي يصل للحكم عنوة لا يعرف للحرية معنى ولا للديمقراطية
قيمة، فهما ألد أعدائه طوال بقائه، ويحارب كل من يناصرهما وفي المقدمة
المثقف الذي يؤمن بتلك القيم الغائبة عن قصور الرئاسة حولنا، وما ذلك إلا
لأنه لو وُجِدت الحرية لما وصل إلى الحكم، ولو وُجِدت الديمقراطية لما
استمر فيه.
لذا يعلن الحاكم عداءه سافرًا على كل المنافذ التي تنشر الوعي بين
الشعب؛ فإما تواليه وتسبح بحمده، وإلا يغلقها ويشرد أهلها أو يعتقلهم، ولا
ينزعج من اعتقال الأقلام ولا يهُزُّه غلق الصحف.
ومثل هذا السياسي الذي يصل للحكم بالتزوير أو بانقلاب عسكري يعمل دائمًا
على تجهيل الشعب، وسد منافذ المعرفة وتشويه من ينطق بحقائق الأمور ويصف
طبائعها دون تهويل سواء كانت أمجاد الحاكم وسياساته الزائفة أو المشاكل
المعترضة للوطن.
فيظل السياسي على هذا النمط من كبت الحريات وتكميم الأفواه وسد منافذ
المعرفة، ثم تعظيم مثل أو كيان أو مؤسسة في عيون الناس حتى يُرى ويُحسب أنه
من الخيانة نقده أو الاعتراض عليه. وفي هذا الوقت يبرز المثقف بدوره
فيناهض هذا النهج التضليلي، ويبين أن كل الكيانات في الدولة خاضعة للسلطة
الحاكمة ولا تخضع السلطة الحاكمة والدولة جميعها تحت إمرة كيان أو مؤسسة أو
فرد، مع وجوب أن السلطة لا تأتي عنوة أو قسرًا، ولكنها تنبت في صناديق
الاقتراع وتتشكل برضاء الجماهير، فيكون الشعب هو مصدر السلطات والمانح لها.
لكن الحاكم يسير على ما يشبه القاعدة: كي تبقي لك السلطة ويستمر لك
الحكم فعليك أن تُبقي الشعب داخل كهف أفلاطون، وهذا الكهف التخيلي لأفلاطون
يصف معنى غاية في الوضوح لعمل السلطة في تغييب الجماهير حتى تظل ساكنة بلا
حركة أو صوت.
قال في الجمهورية الفاضلة: عامة الناس مسجونون في كهف مظلم منذ الصغر
ولقد قيدوا في هذا الكهف منذ ولادتهم وأداروا وجوههم إلى شاشة على جدار
الكهف تنعكس عليها ظلال ما هو خارج الكهف من ضوء ينير عالمًا من الناس
الذين يسيرون حاملين عرائس خشبية على أكتافهم.
ولمّا كان هؤلاء المسجونون لا يستطيعون أن يلتفتوا وراءهم، فإنهم يظنون
الظلال التي يرونها على جدار الكهف حقائق ويتوهمون ما يسمعونه في خارج
الكهف من أصوات أنها صادرة من هذه الأشباح، فإذا تمكن أحدهم من أن يخرج من
الكهف ليرى الحقائق في الخارج وعاد هذا الرجل ليخبرهم أنهم واهمون فيما
يظنونه حقيقة يسخرون منه وينكلون به.
وهنا تتلخص الأزمة وتبرز معالمها وتحد حدودها وتبدو سافرة على طاولة
الوطن بينهما؛ إذ يعمل السياسي على بقاء الناس في ذلك الكهف، أعينهم على
الحائط، يؤمنون بيقين لا يساوره شك بتلك الأشباح المتراقصة عليه. أما
المثقف فيظل في كل ذلك ثابت الخطى، يعلن موقفه من ذلك بكل وضوح لا يشوبه
غبش، سافرًا كصبح خرج من ظلام الليل مناديًا: أخرجوا من الكهف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق