الأحد، 12 مارس 2017

نهاية أسطورة 7000 سنة حضارة

ساسة بوست| 12 أبريل 2016

نهاية أسطورة الـ7000 سنة حضارة باتت وشيكة، اللهم في وجدان المصريين الذين لا يجدون غير تلك الأحجار ليفخروا بها أمام العالم، تلك الأحجار التي ربطنا بها فخرنا وتباهينا وأرزاقنا، اقتربت من خط النهاية.

المشكلة أننا نعتقد أن الرزق دائمًا في مصر مرتبط بالسياحة، والسياحة عندنا لا تتعدى المعابد والأهرامات والمتاحف والتماثيل الفرعونية القديمة، ذلك الوهم الخادع الذي ضُلّلنا به سنين حتى لا نسأل أيًّا من المسئولين أو أيًّا من الحكومات المجيدة عن إنجازاتها وخدماتها للمواطن، وبالتالي بُني الاقتصاد المصري على السياحة وبالضرورة ارتبط بالدولار، وأصبح المصريون أسرى الزائر الأجنبي وبقشيشه!.

وتم تعظيم وتضخيم الاهتمام بالسياحة الفرعونية لأن مكسبها هينًا لا تعب فيه، مجرد زائر لآثار قديمة قائمة، على حساب الزراعة والصناعة والتجارة عناصر أي اقتصاد قوي حر.

لكن تلك الحضارة الآن وبريقها في طريقها للأفول، أو بمعنى واقعي العزوف عنه، فقد كانت لصدمة بناء تمثال لأبي الهول في الصين آثار واضحة وجليّة على مصر، فسارعت بالشجب والاستنكار وطلبت وقف البناء لما له من ضرر على السياحة المصرية.

وبالفعل فإن الهرم المماثل «المصنوع» من الخرسانة، والذي لم يمر عليه سبعة آلاف عام اجتذب ملايين السائحين في مكانه بمنتزه شمال الصين.
هناك ستدخل وترى أبا الهول بنفس مقاييس التمثال الأصلي في مصر لكنه أجمل، وستجد أنه قابع بين نسخ كثيرة لآثار عالمية خالدة أخرى، ولن تتكلف سوى دولار واحد، غير المعاملة الراقية.

بالطبع لأن مصر تحب الكسب الهادئ السهل دخلت في صراع مع الصين لإزالة النسخة المصنوعة وتقدمت بشكوى لليونسكو، بينما الصين قد ربحت جدًّا من زياراته، غير تعاقدات على برامج تليفزيونية، وأفلام سينمائية ستستغل وجود أبي الهول في تصويرها.

ولكن ليست هذه هي الأزمة، فعمق المشكلة الاقتصادية تتمثل في ركون الدولة للسياحة بحيث بدت عبر أجيال عديدة «كجابية» وليست مستثمرة، منتظرة دائمًا ما تسقطه التماثيل لا ما تنبته الأرض، وما تفيض به المسلات لا ما تنتجه المصانع.
إننا نخدع أنفسنا بالاستمرار في هذه المهزلة، فالمقارنة بين دولتين كمصر وفرنسا من حيث الآثار الموجودة وتاريخيتها، وعدد السياح الزائرين بينهما يفوق الخيال، فليس أقدم من آثارنا الفرعونية، وليس أكثر من عدد الزوار لفرنسا حيث يزيد العدد عن ثمانين مليون سائح سنويًّا.

والأمر ليس صعبًا لكي نفهمه، فإن السائح الذي عزف عن زيارته للآثار المصرية القديمة الأصلية له عذره، فمصر لم توفر له المعاملة اللائقة كضيف من حيث الطبقة المحتكة به مباشرة، فإننا نجد النصب والاحتيال والسرقة متلازمات لمهنة السياحة عندنا، كذلك لم توفر له طرقًا هادئة لا تهد الجسد أثناء الانتقال، ولم توفر له مرورًا منظمًا آدميًّا، ولم توفر له ما يقضي فيه بقية يومه بعد زيارته للآثار الفرعونية.
لكن السائح في فرنسا يجد الأمن والأمان، يجد «الكافيهات» العالمية الراقية، يجد الطرق النظيفة، يجد الفنون والمسارح، يجد بيوت الأزياء العالمية، وغيره الكثير غير ذي صلة بآثار الغابرين.

فإذا فشلنا أن نكون كفرنسا فلنكن كالإمارات:
إن حالة الإمارات  شبيهة بنا في بعض جوانبها، منها أنها ظلت فترات زمنية طويلة تعتمد اعتمادًا مباشرًا بنسبة وصلت إلى 90% على النفط الذي هو هبة، مورد طبيعي، لم تتدخل في وجوده يد إماراتية، كالآثار المصرية التي مضت عليها ألوف السنين دون إضافة، لكن الإمارات -وإن كانت مصنفة عالميًّا من حيث الاحتياطي النفطي، وهي في المرتبة الثانية في أوبك- أخذت مؤخرًا بسياسة جديدة تعتمد على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط من خلال المشاريع التنموية المستدامة، والتي أعلن عنها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم متمثلة في إضافة قطاعات اقتصادية جديدة لاقتصاد الإمارات بعيدًا عن النفط وتطوير كفاءة القطاعات الحالية، ليكون الهدف النهائي هو اقتصاد معتمد على التنمية والمشروعات الوطنية، وليس النفط.

فـ70% من اقتصاد الإمارات الآن غير معتمد على النفط، وستحتفل الإمارات قريبًا كما قال الشيخ محمد بن راشد بآخر برميل ستصدره من النفط.
فهل من الممكن أن تتخذ مصر تلك الخطوة، وأن تبدأ في بناء اقتصاد خالٍ من السياحة والتسول على أبواب المعابد والمتاحف!

إنني أتساءل دائمًا: كيف لو كانت مصر كأي دولة بلا آثار ومعابد وأهرامات؟
تلك الفرضية التي يجب أن ننطلق منها دون الاعتماد على الأموات في رزق الأحياء، وأن ننظر للغد وتحقيق التنمية المستدامة للأجيال القادمة، وأن نبدأ اقتصاد ما بعد الآثار كما فعلتها الإمارات بدون بترول.

فالحاجة تشتد إلى تنويع مصادر الدخل إذا علمنا أن العلاقات بين الدول تسوء وتتغير في ليلة وضحاها، وتكون مصر مهددة من أي دولة بمنع رعاياها من السفر إلى مصر، وكذلك الأزمات المالية التي يتعرض لها العالم كل فترة بصورة مفاجئة ولا تخلو منها دولة.

السبت، 11 مارس 2017

"أيام مبارك" كبديل

إضاءات| 2016/11/24 


لم يمضِ على ثورة يناير بضعة أشهر حتى همس البعض في 2012 مترحما على نظام مبارك لما رأى وقتها من ضيق معيشي طبيعي كأثر جانبي للثورة، ومع مرور الوقت أكثر ارتفع ذلك الهمس وتردد بنبرة يملؤها التمني والرجاء أن لو استمرت تلك الأيام على ما كان فيها، حتى أصبحت اليوم «ولا يوم من أيامك يا مبارك» كلمة اعتيادية أو مثلا سائرا بين الناس، وأن البعض لم تعد لديه مشكلة في رجوع النظام بأشكاله ورموزه وسياساته كبديل للفترة السياسية الراهنة، دون الالتفات لضرورة إصلاح الفساد والبحث في أسبابه وأي الطرق أوصلت إلى تمني أيام فاسدة امتدت في عمر الزمن ثلاثين عاما.
ولكن السؤال الطبيعي: هل نسي المصريون أيام مبارك وما كان فيها؟

بالطبع الإجابة على السؤال لن تفيد الواقع البائس الذي دفعهم لتمني ذلك، ولكن هذه النوستالجيا ليست لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية فحسب، فإن الضيق المعيشي والبطالة رفيقان لأيام مبارك ولا شك وإن كان أقل من الآن بكثير، لكن الحنين المفرط إليه يضع بضع دوائر حمراء حول نفسية الحالم المتمني الراجي.
وهذه «النوستالجيا» ليست خاصة بالشعب المصري أو العربي عموما من الحنين إلى الألم الأقل، والصعاب الأضعف، والشظف الذي يمكن التعايش معه أطول فترة ممكنة من عمر الشهيق والزفير المتردد داخله، ولكنه منتشر في كثير من الشعوب والأمم، إذ كلما طرأ على الحكم أو الإدارة نظام شديد نزع بعض الشعب إلى الأقل شدة، والأقل ظلما.

كذلك يُسرع البعض الذي لم يتأقلم مع الفساد الجديد والشظف الجديد والمعاناة الجديدة إلى الحنين للمعاناة التي اعتادها وصاحبها وألفها، فهو قد خبر المعاناة القديمة وعرف حدودها وتكاليفها ومدى آلامها وكيفية مسايرتها، لكن الجديدة فهو بحاجة لوقت كي يتقبلها!.

الأمر ذاته تكرر في عدة مناطق في العالم، لكن أبرزها كان في بعض أقطار أوروبا الشرقية حيث نجد نوستالجيا حادة إزاء الماضي الشيوعي على ما كان يحمل بين طيات تاريخه من إجرام وقهر ودكتاتورية ولا إنسانية.
طرحت Urska Velikonja الأستاذة المساعدة بمدرسة القانون بجامعة إيموري الأمريكية، عدة مسوح على هذه المناطق والتي أظهرت حنينا حادا للماضي الشيوعي. «ففي 1999 اعتبر 50 في المائة من السلوفاك أن النظام الاشتراكي السالف أفضل من «الديمقراطية الراهنة»، وفي العام ذاته تبين أن 85 في المائة من الروس آسفون على سقوط الشيوعية والاتحاد السوفييتي، وفي 2004 تراجع المعدل إلى 74 في المائة.

وفي عام 2002 قال 56 في المائة من البولنديين في استطلاعات للرأي إن الحياة «في الماضي كانت أفضل»، وفي عام 1995 و2003 اعتبر 88 في المائة ثم 86 في المائة من السلوفانيين على التوالي أن الحياة في يوغسلافيا السابقة كانت «طيبة» و«طيبة جدا»، وفي تاريخ أقرب (2009) أعلن 72 في المائة من الهنغاريين، و62 في المائة من البلغار والأوكرانيين، و60 في المائة من الرومانيين، و45 في المائة من الروس، و42 في المائة من اللتوانيين والسلوفاك، و39 في المائة من التشيك، و35 في المائة من البولنديين أنهم يعيشون في حال أسوأ مما كانوا عليه أيام الشيوعية» [1].

فالمتتبع لفترة الحكم الشيوعي وانتشاره يدرك كم عانت تلك البلدان من النظام الإجرامي، لكن استطلاعات الرأي السالفة الذكر في رأي البعض ليست مفاجأة على ما تحمل بين ثناياها من مذهلات، فيذهب أحدهم معللا ذلك بأن تلك النتائج «تنبع من غياب إدارة نخبوية للذاكرة الاجتماعية، وغياب المعلومات والرؤى الفردية، وسقطات الذاكرة والتشويش العميق في الأفكار، والقيم، والرؤى».
لكن الطرح السابق يصف المشكلة دون الولوج لكنهها، فإن المشكلة على الحقيقة لها بعد نفسي يتعلق بالتكوين السيكولوجي للإنسان، فالرومان مثلا الذين يمتدحون الماضي الشيوعي هم أنفسهم الذين يعتقدون بنسبة 41 بالمائة أن النظام الشيوعي كان «إجراميا»، وبالتالي إذا ناقشت أحد الذين يعبث الحنين بصدورهم لعصر مبارك الآن عن جرائم النظام الممتدة بآثارها إلى وقتنا الحاضر ما أنكرها ومع ذلك لن تستطيع نزع اعتقاده بأنه كان عصرا حسنا.

وهذا يحيلنا بالضرورة إلى العامل النفسي والذي يعتبر ركنا هاما من أركان نوستالجيا شبه جماعية إزاء عصر مبارك، والذي يتمثل في العوامل أو المبادئ التي تحكم العمليات النفسية وترتبط بها ومنها مبدأ «إجبار التكرار» كما يقول فرويد:
أن هناك ثلاثة مبادئ تحكم العمليات النفسية وترتبط بينها، هي مبدأ اللذة – اللا لذة، ومبدأ الواقع، ثم مبدأ إجبار التكرار، وبمقتضى المبدأ الأول فإن كل إنسان يميل إلى تحقيق اللذة لنفسه من أي نشاط نفسي أو بدني، وأن يتجنب اللا لذة بمعنى الكدر والألم والتوتر، غير أن الأنا في تطوّره نحو النضج يتعلم أن يخضع لمبدأ الواقع؛ أي ما تقتضيه معايشته للناس، وما يفرضه عليه المجتمع وتمليه عليه التربية. وليس مبدأ الواقع هو فقط الذي ينحّي مبدأ اللذة، فإنما هناك حالات لا يفسرها إلا أن يكون هناك دافع غريزي في الإنسان يميل به إلى أن يكرر مواقفه وخبراته واختياراته القديمة حتى لو كانت مؤلمة، متناقضا مع مبدأ اللذة، ومن ذلك مثلا أن الأطفال يكررون في ألعابهم تمثيل مواقف لم يتحصل لهم منها إلا الخوف والقلق والألم، وقد يطلبون استعادة حكايات لها مثل ذلك الأثر، وبعض الناس يظهرون كما لو كان لديهم استعداد لارتكاب الحوادث فيتورطون في وقائع يتكرر لهم منها الأذى الذي سبق أن عانوه منها، وكأنهم لم يتعلموا الدرس. [2]
فأي يوم مثلا يريده المصريون من أيام مبارك؟
يوم أن شنق عبد الحميد شتا نفسه فوق الكوبري لأنه «غير لائق اجتماعيا» ومن ثمّ ليس له نصيب في وظائف الدولة العليا، أم يوم قتل الرجل أبناءه لأنه لا يستطيع إطعامهم، أم يوم عبارة السلام، أم يوم خالد سعيد، أم يوم كنيسة القديسين؟!
جمعني لقاء مع أحدهم وهو يتحدث بلهفة عن عصر مبارك، ويصرح أن مبارك رئيسه إلى الآن مهما حدث، ثم ختم قوله بالمثل السائر “ولا يوم من أيامك يا مبارك”، ولمّا ذكرته ببعض فساد عصره، قال: «على الأقل الواحد مكنش فاهم أي حاجة!».
صحيح أن هذا اللقاء قد مر عليه وقت ليس بالقصير، ولكن جملته توضح أصول النوستالجيا من زاوية غاية في الأهمية وهي الجهل بما كان يحدث، وما ألقته المعرفة من مسئولية شخصية على كاهل من أدرك الحقائق بلا تدليس ولا تشويش، وقديما قال المتنبي: «وذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم».

وهذا ما دفع قطاعا عريضا من الناس إلى الابتعاد عن الأخبار، ومتابعة المستجدات السياسية، متحلين بروح المبالاة قدر الإمكان إذ لم يستطيعوا الرجوع لمدينة الجهل من جديد.

كيف نفهم فوز ترامب

 ساسة بوست| 10 نوفمبر 2016


بعد انتهاء الحملتين الانتخابيتين للمرشحين كلينتون وترامب، ووصول الأخير إلى البيت الأبيض باعتباره رئيسًا جديدًا للولايات المتحدة الأمريكية، رغم تصريحاته العنيفة والعنصرية أحيانًا واللاأخلاقية أحيانًا أخرى، كان يجب أن نتوقف قليلًا لنمعن النظر ونتفحص كيف تجري العملية الانتخابية الأمريكية.

فالذي يتحدث باستعلاء عن المكسيكيين، وينوه بمنع المسلمين من التواجد في أمريكا ومنعهم من دخولها، وسبه للنساء واعتبار أنهن لسن أكثر من آلات للجنس فحسب، ثم مغازلة ابنته جنسيًّا، وإساءته للدول العربية والسخرية منها، كل ذلك كفيل أن ينفيه خارج الصناديق، لكن ما حدث خلاف ذلك، وهو يطرح سؤالًا مهما، هل تتفق الجمعيات النسوية هناك على أن المرأة لا دور لها في الحياة سوى امتاع الرجل فحسب كما يرى ترامب، تلك النظرة التي طالما صورت بها هوليود المرأة العربية في أفلامها، وهل ترى جماعات حقوق الإنسان ما يراه رئيس أمريكا من احتقار الأمريكان السود، وغلق الدولة في وجوه المسلمين؟

بالطبع سنجد تتبع الإجابات عملية مرهقة تستلزم وقتًا كثيرًا ويستأهل بحثًا على حدة أو مجموعة مقالات مطولة، لكن على أية حال فذلك يشير إلى أن اتجاهات الأمريكان ورؤاهم في اختيار الرئيس تختلف تمام الاختلاف عمّا نتوهمه من خلال ما تصدره لنا عدسات هوليود، تلك الاهتمامات التى تجعلهم يتغاضون عن عنصرية الرجل وحماقته وازدرائه للنساء والاستخفاف بالشركاء الدوليين في المنطقة العربية.

ثم هل يمكننا أن نشك في نزاهة المواطن الأمريكي، ونشك أيضا في العملية الديمقراطية الأمريكية ونتهمها بالنقص المعيب مهما أحرزت تقدما في مؤشر «فريدوم هاوس»؟

نعم، فبعد انتهاء العملية الأخيرة وجدنا الكثير من التابوهات الجامدة التي ينبهر بها أغلب الساسة العرب والإعلاميون تكسّرت بعنف على صعيد صلد، وأن الديمقراطية الأمريكية متأخرة عن الكثير من الديمقراطيات في العالم بشكل معيب هو الذي سمح بوصول أحمق أمريكا لسدة الحكم.

ومن هنا تبرز طبيعة الآلية التى تحكم العملية الانتخابية، فليس المواطن الأمريكي هو محور العملية، وليس لصوته القوة الفاعلة أو القيمة التى يمكن أن ينحني لها العالم احترامًا باعتباره تعبيرًا حادًّا عن الديمقراطية والتمتع بالحقوق السياسية، لكن العنصر الأهم هو سيادة منطق الرأسمالية للدولة وعدم المساس به، وبوضوح نجد أن الصوت الانتخابي الأمريكي يأتي عاملًا مساعدًا في العملية السياسية عمومًا والانتخاب الرئاسي خصوصًا بين عناصر المعادلة السياسية.

ولفهم هذه النقطة أكثر نعرض قول «كولن مويرز»: المدافعون والمعتذرون عن الإمبريالية الجديدة مهما قلنا عن الطبيعة الإيدلوجية لمشروعهم، منخرطون أيضا في جدل مع بعضهم بعضا حول التوازن المناسب بين الجوانب العسكرية والاقتصادية للإمبراطورية. فالمسألة المهمة من منظورهم هي العثور على أفضل إستراتيجية لتأمين المصالح الرأسمالية وطنيًّا وإقليميًّا.

وان كان ذلك كذلك، فمنطقيا أن يردف «مويرز» في موضع آخر: يجب احتواء القوى الديمقراطية بعناية بحيث لا تهدد حكم رأس المال.

والموضع هنا ليس قاصرًا على فوز ترامب، بل على العملية السياسية الأمريكية ككل، فإن منطق سيادة رأس المال أدى لعدة مظاهر في العملية السياسية هناك تقوض من قيم الديمقراطية بل ترمي بها رأسا في المحيط، وذلك على خلاف ادعاء أمريكا في خطابها لدول الشرق الأوسط أنها تدعو للديمقراطية، بل يكذّب ذلك فريد زكريا أن على أمريكا أن تصدق مع نفسها بأنها تدعو إلى ليبرالية دستورية.

فمن تلك المظاهر دخول البنوك والشركات صراحة في تمويل العمليات الانتخابية حسب مصالحها الخاصة، فإن كان المال السياسي يلعب دورًا محوريًّا في أي عملية سياسية في أي مكان في العالم ثم يصف العملية بعدم النزاهة، إلا أن الأمريكان يتعاملون مع العملية السياسية من منطق البيزنس، لذا لما قام ماكين بصحبة السيناتور راسل فاينجولد في 2001م بوضع قانون يحد من سيطرة رأس المال على الانتخابات الأمريكية قوبل بهجوم عنيف من قادة الحزب الجمهوري والمعروف في أمريكا على أنه حزب الأثرياء.

والمواطنون الأمريكان ليسوا على قدم المساواة في الحق الانتخابي، فالفقراء يصوتون بأعداد أقل من الأغنياء، والأقل تعليمًا يصوتون بأعداد أقل من الأكثر تعليمًا، والأمريكان من أصل أفريقي والهسبان يصوتون بأعداد أقل من القوقازيين.
كل هذه العراقيل أمام الممارسة السياسية أدت إلى مشاركة ما لا يزيد عن 130 مليون أمريكي من أصل ٣١٨٫٩ في إحصاء 2014.

إضافة إلى ذلك فالتصويت ليس إجباريا في الولايات المتحدة الأمريكية كمختلف الديمقراطيات حول العالم، ثم إن أيام الانتخابات لا تكون بالضرورة عطلة رسمية ليشارك المواطن بصوته.

هذه المظاهر وغيرها تؤدي بنا إلى نتيجة هامة، وهي أن الصوت الانتخابي ليس بالأهمية الكبيرة في الانتخابات الأمريكية، بل إن المؤسسين للولايات المتحدة ألزموا الأمريكان بوجود وصاية سياسية عليهم، حيث يكون الفاعل الأخير والأهم في اختيار رئيس البلاد ليس بالأكثرية الشعبية، بل أكثرية المجمع الانتخابي البالغ 538 ممثلا عن ولايات الدولة، ما يشبه إلى حد كبير «مجلس البولا» في اليونان القديمة والمعروف أيضا بمجلس الخمسمائة.

لذا لم يكن غريبًا أن تخفق كلينتون رغم تقدمها في كل استطلاعات الرأي، وليس غريبًا أن يفوز ترامب رغم حماقته وغبائه الشديدين، فكثيرا ما وصل رؤساء إلى البيت الأبيض بأصوات المجمع الانتخابي رغم خسارتهم في صناديق الاقتراع وكان بوش الابن آخرهم.

وربما كان الملياردير الرأسمالي ترامب هو الجدير بالحفاظ على هوية وأيدلوجية الدولة الرأسمالية في المرحلة الحالية التى يشاهد فيها العالم عودة بطيئة نسبيا للصراع القديم بين الاشتراكية والرأسمالية بين روسيا وأمريكا.

تعليقات فيس بوك